الثقافة المغربية
حين نوجه نظرنا نحو المغرب، فإننا لا نرى إمكان الحديث عنه في جميع شؤونه ومتعلقاته، ثقافية كانت أو غيرها، من غير أن نستحضر عنصرين اثنين: موقعه وسكانه:
ـ أما الموقع فمحصور في أقصى شمال القارة الإفريقية، مطلا على بحرين عظيمين،أحدهما وهو الأطلسي لم يكن خلال التاريخ القديم سوى فضاء مظلم، والآخر وهو الأبيض المتوسط كان على الدوام معبرا بين الشرق والغرب ومجال حركة حضارية وثقافية مستمرة. والمغرب بانتمائه الإفريقي يبدو ممدود النظر واليد باستمرار للشرق من جهة، ولما بعد الصحراء من جهة أخرى؛ في حين يواجه في شماله قارة أروبية كان له مع بعض دولها كثير من الاحتكاك والصدام، في مد وجزر لم يعرف الانقطاع قط.
والمغرب بحكم هذا الموقع المحتوم وما يفرضه عليه، كان على امتداد الحقب يعاني تأرجحا إن لم نقل اضطرابا وحيرة بين الانفتاح على التيارات التي تهب عليه رياحها، وبين الانغلاق حماية لنفسه من الزوابع التي قد تصاحب هذه الرياح،مما جعله في نهاية الأمر يشعر بشيء من الانعزال عن المراكز التي كانت تظهر فيها الديانات،وتعتمل فيها الحضارات والثقافات، لا سيما الشرق.
ـ وأما السكان، فلا نرى حاجة إلى أن نثبت أنهم من البربر الأمازيغ ومن العرب، بحكم اندماجهم داخل بوتقة الإسلام باعتباره رسالة إنسانية عالمية، وبدءا من عصره الأول، يكونون نسيجا مغربيا متلاحما ذابت فيه كل الفوارق وزالت به جميع العناصر الجزئية، إلا ما كان من بعض الخصوصيات الثقافية التي استطاع التشكيل الاجتماعي أن يهضمها ويدمجها أو يحتفظ بها ويغتني، كبعض العادات والممارسات وأنماط الفنون والآداب المنبعثة من إبداع اللهجات المحلية؛ دون أن ننسى أن أولئك البربر هم عرب في الأصل، إذ ليس يخفى أن المؤرخين ودارسي الأجناس والسلالات أثبتوا للعرب أصولا في إفريقيا الشمالية التي منها اتجهوا منذ العصرين الحجري القديم والحديث، أي قبل الميلاد بأزيد من عشرة آلاف عام،إلى شبه الجزيرة العربية، حيث استقروا بجنوبها في أول الأمر، مارين بمعبر السويس في مصر.كما أثبتوا الشبه بينهم وبين البربر، لا سيما فيما يتعلق بالملامح الخلقية الجنسية، وحتى اللغوية والفنية، إضافة إلى بعض العادات وما إليها من مظاهر اجتماعية. في حين يرى غير هؤلاء من علماء الحفريات، أن العرب هم الذين نزحوا منذ هذين العصرين إلى الشمال الإفريقي وافدين من شبه الجزيرة العربية، وأنهم اختلطوا عند وصولهم بشعوب أخرى كانت قادمة من أروبا عبر شبه الجزيرة الإيبيرية.
مهما يكن فإن أصل السكان المغاربة كامن في العروبة الحميرية التي تربطهم بشبه الجزيرة العربية، وكامن كذلك فيما يثبته الواقع التاريخي من اختلاط تواصل بفعل الهجرات العربية المشرقية المتعددة التي اتجهت نحو المغرب خلال العصور الإسلامية، لا سيما طوال القرون السبعة الأولى، ثم الهجرات الأندلسية التي عرفت أوجها على إثر انتهاء وجود الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، تكون نسيج تشكلت به وحدة وطنية ودينية عاش المغاربة في ظلها مجتمعين، يتملكهم شعور بهذه الوحدة، هو الذي كان دائما يحثهم على التمسك بالأرض والدفاع عنها ورد كل محاولة للاعتداء عليها.
وفي بوتقة هذه الوحدة، تبلورت ملامح ثقافة مغربية كانت مسبوقة لا شك بشتى مظاهر الحياة البشرية التي عرفها المغرب في مراحل ما قبل التاريخ، على نحو ما أبرزته الاكتشافات الأثرية من عظام وأدوات وحلي ونقوش وكتابات تذكر في مضمونها بما كان عند قدماء المصريين من معتقدات،وتحيل في شكلها إلى لهجتهم التي تنتسب مثلها إلى المجموعة الكوشية أو الحامية، في قرابة مع الأصل السامي، وفي توسل بحروف التيفيناغ التي هي ذات مرجعية ليبية.
وقد أتيح لهذه الثقافة أن تكتسب بعض الجديد في العهد الفينيقي الذي بدأ منذ منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والذي استمر الاحتكاك به نحوا من ألف عام. وهو احتكاك قوى هذه الثقافة في سياق التوجه الشرقي الذي كانت تمتزج فيه مظاهر مصرية وأخرى إغريقية.
وعلى الرغم من أن المغرب بعد الحروب البونيقية التي دارت بين القرطاجنيين والرومان، والتي دامت من منتصف القرن الثاني قبل الميلاد إلى منتصف الخامس بعده، تعرض للغزو الروماني، فإنه ظل محتفظا بطابع ثقافته التي حاول الغزاة أن يستبدلوا بها ثقافتهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك إلا في نطاق ضيق كانت تمثله فئة من المتعلمين والموظفين وأصحاب المصالح، هم الذين استعملوا اللغة اللاتينية واعتنقوا المسيحية.
ومع أن المغاربة ميالون إلى التوحيد، فإنهم لم يقبلوا على هذا الدين، لارتباطه بالاستعمار الروماني،إلا ما كان من تلك الفئة التي لم تلبث أن دخلت الإسلام، مما لم يبق معه للمسيحية أي أثر في المغرب. كما أنهم رفضوا اليهودية لارتباطها بالميز العنصري، وإن اعتنقتها مجموعة محدودة، أسلم معظمها، من غير أن يقضى على الدين اليهودي الذي استمر عند قلة من المغاربة لا تذكر، مما أتاح له أن يستمر عند هذه القلة، وكذا عند بعض اليهود الذين هاجروا إلى المغرب بعد أن طردوا من الأندلس ولم يسلموا، وحافظوا في نطاق دولته ـ باعتبارهم من الكتابيين أهل الذمة ـ على عقيدتهم وثقافتهم التي كانت في انعزالها ذات صيغة دينية، ولم يتسن لها أن تحتك بعموم الثقافة المغربية إلا من خلال بعض المهارات الصناعية وبعض الفنون، على نحو ما كان لهم من اعتناء في العصور المتأخرة بطرب الملحون وموسيقى الآلة التي كان لليهود فيها تبريز متميز.
ومن ثم، فإن المغاربة واجهوا كل تلك التحديات،وظلوا محافظين على ثقافتهم، وعبرها أثبتوا وجودهم الذي تمثل في بعض الإمارات المستقلة،والذي بقي صامدا في وجه الغزاة الوندال الذين جاءوا من جرمانيا، والذين استمر احتلالهم من منتصف القرن الخامس إلى منتصف السادس، وكانوا أهل تخريب وتدمير، في استبداد واستغلال للخيرات، مما جعل تأثيرهم الثقافي لا يذكر.وقد تعرض المغرب بعدهم للغزو البيزنطي الذي واجهه المغاربة بشدة، دون أن يفيدوا منه أي شيء.
وهو وضع زاد في تعقيده غموض هذه الفترات التي اتسمت بشيء غير قليل من الاضطراب، والتي مهدت لاعتناق الإسلام وهو الدين الذي سيطبع مسيرةالمغرب الثقافية بعد أن طبعها سياسيا وفكريا ولغويا.