ايام الابتدائية كنا نقرأ عن المدينة والفرق بينها وبين القرية التي كنا نعيش فيها وعن شوارعها الفسيحة النظيفة وعمائرها الشاهقة ونظافة سكانها وانسياب حركة المرور فيها واولادها المؤدبين الحلوين ومقاهي الانترنت, وارتسمت هذه الصور الخلابة في مخيلتنا نحن الصغار وبتنا نتوق الى رؤية المدينة لنرى هذا الجمال وهذه الروعة وهذه النظافة وهؤلاء الناس وكيف يسيرون في الشوارع وهم يبتسمون لكل من يصادفهم . وهذه السيارات التي تقود نفسها بنفسها وتقف عند الاشارة بعد ان شربت الأدب المروري من أصحابها. وظل هذا الحلم الجميل ينمو حتى استوى عوده وعندما اشتد، وكنا نعيش في مزرعة كبيرة، بعنا المزرعة والبقر والغنم والدجاج حتى الحمار ايضاً، اما الكلب فقدمناه هدية لجارنا رغم العداوة التي كانت بينهما، وانتقلنا إلى المدينة ونحن نكاد نطير من الفرح، ويا ليتنا لم ننتقل، ليتنا ظللنا في قريتنا ولم نر هذه المدينة الحلم، مضت عدة سنوات والمدينة تزداد سوءاً بعد سوء وشوارعها الفسيحة تزدحم بالسيارات ولم نجد السيارات التي تحترم الاشارات أو التنظيم المروري واما الشوارع الصغيرة (السكك) التي بين المنازل فهي ملك للقطط والنفايات ، لقد كنا في القرية نرى بعضنا البعض ونزور بعضنا ونواسي بعضنا ونتفقد بعضنا، ومن أراد المساعدة ساعدناه وإذا غاب الشخص عن منزله قمنا بواجبنا تجاه اهله ونعلم عن المسافر والموجود ومن دخل المستشفى، وإذا قدم شخص جديد ونزل في بيته قمنا بواجبنا تجاهه. ولكن في المدينة لم نر جارنا إلا مرات قليلة واولاده ذوي القصات المرعبة والملابس المزركشة المقززة. لقد غابت عن كثير من أهل المدينة، قيم كثيرة كانت قبل زمن قصير موجودة لكنها اندثرت وماتت ونسيها هذا الجيل الذي اتى وأصبح منتهى تفكير البعض منهم: جينز قصير أو طويل وقبعة وقصة غريبة وسيارة بداخلها اغان غربية تصيب المستمع بالصمم ووظيفة ودش. أين القيم التي تعلمناها في المدرسة وقرأناها في المطالعة؟ لماذا لم نجدها على الطبيعة كما يقولون؟ لقد أتعبتني المدينة ووددت لو اني لم أرها طيلة حياتي ولم أرغم والدي على الانتقال إلى هنا. لقد ضاع كل شيء، ضاعت المزرعة وثمنها في الايجارات وضاع الحمار والماعز، وربما اجهز جارنا على الكلب، نعم ضاع كل شيء بسبب مغامرة طائشة وهي الانتقال إلى المدينة فمن يتكرم ويعيد لي قريتي؟ سوف اتنازل له عن المدينة.أين البراءة التي كانت من سمات أهل القرية؟ لقد افتقدناها هنا.. كنت في السابق أخجل ان يقال عني "قروي أو بدوي"، أما الآن.. فأنا قروي وبدوي 100% ويشرفني هذا اللقب الكبير العظيم الذي لا يروق للكثير ولكنهم معذورون لانهم لا يدركون المعنى السامي الذي ينطوي عليه، وهذه الحضارة إذا كانت بهذا التشكل لا أريدها، فلا الصغير يحترم الكبير ولا الاخ يزور أخاه ولا الابن يجلس مع والده أو والدته أكثر من دقائق معدودة وعلى عجلة من امره وتجده يتلفت يمنة ويسرة يريد الفرار. قست القلوب وتقطعت الأرحام وتبلدت الاحاسيس وتباعدت الأهداف وتوترت الأعصاب وطغت المصالح الشخصية على القيم الإنسانية النبيلة وماتت الهمم وتلون الكلام وكثر النفاق والكذب وتغيرت الوجوه وصغرت الأحلام وأصبح الميزان ميزان مادة وتفرقت الأسر بسبب الخلافات التافهة والحسد والحقد والغيرة وبسبب أجهزة التلفاز والفيديو والفضائيات ولعب الاتاري، وتجد أفراد العائلة منتشرين في الزوايا وفي الغرف لا يكلم احدهم الآخر، فهم مشغولون.. مشغولون، حتى النوم لم نعد نصحو منه إلا بالقوة، ارجوكم اعيدوا لي قريتي وهدوئي وطيبتي وقرويتي وسعادتي ومزرعتي أتوسل اليكم.. ارحموا عزيز قوم قد ذل، فقد اتعبتني مدينتكم وطفشتني حضارتكم ولم أعد أرغب في البقاء بينكم ولو أهديتم لي العقارية والفيصلية والمملكة.لقد اشتقت إلى رغاء الشاة والبعير والحر والهجير هناك في القرية أو في الصحراء لا يهم، حيث السكون والهدوء والطمأنينة والطبيعة، أعرف انه حلم وأعرف ايضاً انه حلم طويل جداً بلا نهاية.. رجائي ان تصفحوا عني فقد قلت الحقيقة، فالله يحفظكم ويحفظ لكم مدينتكم.. وأنتم في أتم الصحة والعافية.