" مُـدن كالنسـاء ! ( 2 ) "
التاسعة صباحاً في اكدال البرد لم يتغير رغم سطوع الشمس ، وتباعد السحب عن بعضها البعض بعد عناقها المكثف ليلاً .
أردت أن أمارس المشي في هذا الصباح رغم وعثاء السفر ، أظن أن استخدام السيارة في كل تنقلاتك السياحية داخل اي مدينه سيحرمك من تحسس نبض الشارع بقدميك ، وستكون ثقافة سطحية عن المدينة التي حللت بها ضيفاً أو دعنا نقول انك ستكون ثقافة " مراكبية " إذا صح التعبير .
لذا قررت أن اترك جامع بدر الشهير على يدي اليمني وأبدا في طلوع إلى الأعلى وابدأ بتحسس نبض الشارع على قدماي ، أمر مرور الكرام على الوجيه ، والمحال ، حتى أصل إلى لا شــي !
لاشـي التي تعني أنني وصلت إلى النهاية وعلي العودة إلى منزلي وإماطة الأذى عن الطريق !
المقاهي من زينة الحياة الدنيا بالنسبة لي ، لطالما كانت المستودع الثقافي الأكبر للشعر والقراءة
وللـ أراء الشخصية ، ولتكوين الأفكار الحميدة والغير حميدة أيضا ، وللالتقاء بغريبي الأطوار والشعراء والأدباء وسائقي الأجرة.
الأفارقة بشكل عام يقدسون المقاهي ، والمغاربة بشكل خاص ويعتبرون الجلسة في أحدى المقاهي لازماً ضرورياً لابد منــه .
المقاهي في اكدال كُثر ، وكل مقهى لديه مايميزه ، كانت المقاهي تتزين بـ أصناف البشر
وحدها المقاهي في الرباط لايطالها البرد ، دافئة بـ أحلام وقصص وحكايات مرتاديها ، دافئة برائحة القهـوة التي تساوي عندي وعند الكثير : عطور باريس الفاخرة !
لكن مايعيب على تلك المقاهي أنني أثناء مروري بجانبها أنني لم أسمع صوت فيروز فيها ..
الصوت الذي وصفه أحد العلماء وجهابذة الفكر : بالصـوت المستقيم !
هم في اعتقادي لايعلمون أن كثيراً مثلي لايشعرو بالصباح حقاً إلا عندما يستمعوا لـ تغريدها
ويجب أن يأتي صوت فيروز المستقيم ، بغتة .. يفاجئك .. يصيبك بالرعشة .. يجعلك تلقي التحية على من تعرف وعلى من لاتعرف !
تذكر آخر مره شفتك سنتا ؟
تذكر وقتها آخر كلمه قلتا ؟
وما عدت شفتك وهلأ شفتك
كيفك انت ملأ انت ؟
كيفك إل عم بيقولوا صار عندك ولاد
أنا والله كنت مفكرتك برات البلاد
وشو بدي من البلاد ؟
الله يخلي الاولاد !!
وأنا من هنا أناشد وزير السياحة السيد : الحسن حداد ، لعله يقرأ تقريري هذا أن يحث أصحاب المقاهي
على فيروز صباحاً .
كيف لاا ، والرباط تعد من أبرز المدن المغربية التي تهتم بالفن والغناء والموسيقى ، خصوصا عبر مهرجانها الجميل " موازين " الذي يتصدر أهم المهرجانات الغنائية العربية .
وأن فعل ذلك السيد الوزير فـ بشره الله بـ تمر خلاص من مدينة القصيم السعودية التي يحرم أوليائها الصالحون الموسيقى وما تمت إليه بصلة .
توقفت عند مقهى " وليفري " كان صامتاً من الموسيقى واستعنت بهاتفي والله المستعان .
موقعه الجيد في زاوية الشارع مقابل " المترو " ولـ شارع صغير جداً يكفي لسيارة واحد فقط بالمرور
هو مايميزه ويعيبه في آن واحد .
حركة العابرين من أمامه أجمل مافيه ، وشهرته مؤخراً كما سمعت من أحد الأخوان أنها تفوق
شهرة " ستاربكس " سلفرج لندن .
عموما الصباح في اكدال كان شبه حيوي وتستطيع الحصول عليه في أي مدينة ..
ربما لأنه شهر " نوفمبر " الخامل البطي والكسـول أيضاً .
الرباط مدينة إدارية بـ امتياز ، ربطات عنق بدل رسمية حقائب سوداء في أيدي المارة ، فلعل الموظفين
هرعوا إلى مكاتبهم وتركو المقاهي وشوارع آكدال للسائحين وربات البيوت وكبار السن والمارين بسلام !
هذه المرة الأولى لي في العاصمة المخضرمة ، التي قدر عمرها بـ 1200 سنه تقريباً ،
منافسـة لـ ( مكناس ، وفأس ) العريقتين هذه المدينتين التي عندما زرتها أصبت " بالنستولوجيا " .
ولعلي في قادم الأيام أكتب عنهما بـ أسلوب متفرد كعادتي الجميلة .
فرحاً بحصولي على شهادة علمية من أحدى الجامعات المرموقة بالسعودية ، قررت أن أحتفل
وقررت أن يكون احتفالي كما يفعل البدوي في الصحراء ، عندما يفرح !
اتصلت على حارس الكراج والعمارة ذلك الخمسيني الذي ساعدني في حمل شناطي فور وصولي إلى الشقة ، وبعدما أعطيته " عشـرون درهما " مقابل خدمته العظيمة .. سألني هل أنت سعـــودي ؟
جاوبته : نعم .. ، كرر السؤال مرة أخرى وهو ينظر للعشرين درهم في يده .. أنتا سعودي ؟!
قلت : ورب الكعبــة .. قال بكلماته المغربية التي اسردها لكم بلهجتنا المحلية :
الحمد لله أني عرفت أن في السعوديـة ناس بخيلين مثـلك !!
ابتسمت وقلت الحمد لله أنك أستفد مني ، مادياً وثقافياً ، ولم انتهي منها إلا وقد كان وصل الدور الأرضي غاضباً .
فكرم السعـوديين وبذخهـم يخجلني في المغــرب كثيراً !!!
المهم أنني اتصلت عليه بعدما أخذت رقمه من الخادمة ،
وقلت : ألو أنا بخيــل البارحة ، وأحتاجك لعل الله أن ينفع بك ، أريد أن أشتري خروفا واحتاج إلى مرافقتك لي فـ أنا العبد لله الفقير أجهل في الرباط كثيـراً فماذا قلت ؟
قال : وإمتى بغيتي نمشــي ؟
قلت : ( دابا ياحبيبــي دابا ) !
وفعلا على الفولكس واجن الغبراء .. إلى مكان مجهول بالنسبة لي حينها يـسمى " بـ سلا " وصلنا وكأنها ضاحيــة نابضة بها حياة طبيعية بعيداً عن الترف والتنانير القصيـرة !
دخلنا في زنقة ، عمائر قديمة وصغيرة المساحة بدهانات خارجية قديمة وكئيبة ولا تزيد عن طابقين ، وطريق ليست بالطويلة حتى وصلنا إلى لا منفـذ .. أي يعني من حيث أتيت ستعـود ، أوقفت سيارتي وترجلنا نمشي
إلى حيث حظائر الرعاة وصنادقهم ، نباح الكلاب ونظراتها ترمي بشرر تعلن عند عدم إقترابنا اكثر ، فتوقفنا حتى خرج احد الرعاة وأبعدها
ورحب بنا وسألناه إن كان لديه شي يصلح للبيع .
وبالفعل بعدما وقعت عيني على ذلك الخروف الذي لم يطل الله في عمره ، اتفقنا ع 1100 درهم مغربي ولاحظت أن البيع والشراء معهم يشابه البيع والشراء في حراج الأغنام في جده رغم فارق اللهجات .
توكلنا على الله وتم سحبه مع قرنيه ، وكانت النية أن نتوجـه إلى المسلخ النموذجي كما أفعل في جده.
وفاجئني سعيـد عندما قال لاياصاحبي ماكاينش ..
قلت : افا ياذا العلم .. مالعمل ؟ قال أنا نذبحه ليك في الكراج .
قلت ياصاحبي " اكره اتعرف على جيراني في السفر " في كل انحاء العالم فكنا منهم عافاك .
ضحك وقال واش المشكله ياصاحبي قلت المشكله لو شرحتها لك ، لطال بنا الحديث حتى تغرب الشمس
لكن بـ إمكانك ان تبحث عن الموضوع في كتب " الأتصـال " مع الاخـرين ، وستجد أني محق تماما.
لكن الحين وش الدبره ؟
إلا بتلك الأربعينه التي لاحظت وقفتنا الغير طبيعيه ، فـ أتت تهني وتبارك على صيدنا الثمين ،
سألتها وين نذبحه ؟ تعرفين لنا مكان قريب ؟
قالت اخويا المكان عندي في السطح مرحبا بيكم ، والقصاب ولد أختي ولكنه الان يكمي " قرو " في المقهى ويحتسي القهوة قلت صافي عيطي عليه ،
قالت معكم أمواس ؟؟ قلت : لا والله مامعي إلا الحاج سعيــد !
قالت مرحبا إطلعو ..
هنا انفكت النوافذ وخرجوا الأطفال الصغار يمشون ورائنا وكلهم يطالعون بتعجب ويتسألون مالذي حدث ؟ من أنا ؟ وماهي المناسبـة ؟ علاش الخروف ؟ .. وأسئلة لاتنتهي لاتنتهي !!
ولا أخفيكم ، لو زغردت أحداهن لـ حضيت بـ أكبر نصيب من اللحم لكنهم لم يفعلوا للأسف ، فالزغاريد خصوصا تلك التي تصدر من أنثى جميلـه ، تذكرني بتغريد العصافير في غابات الأمازون الشاسعة
وتجعلني أفرح كما لو كنت " عريساً " .
زغردوا ياجميلات لكل رجل يحمل خروف لتحضين بـ اللحم والأعجاب الشديد من الرجال الشعراء الجميلين بلا شك هذه نصيحتي لكـن : زغـردووووووو !
آتى ولد خالتها ويبدو أنه ابن قريـة ، أو أنه سفاح خرفان سابق خفة يده ومهارته تنبي عن رجل ذبح أكثر من 100 خروف بيـــده الكريمـة .
واكتشفت أن المغاربة مثلنا لايتركو شيئاً في الذبيحة " كل شي كل شي ماعدا الرئتين " .
المهم أنني لم أتجاوز الحي ، إلا بعدما صرحت لهم أني شاب " سعودي " نجح في جامعته وقرر أن يحتفل بطريقته ، وباركولي أناس لا أعرفهم .. ولم استطع أن اصف شعوري لكم ذلك اليوم ، ولكني شعرت أنني نجحــت فعلاً !
كرم السيدة فاطمـة وأخلاقها الفاضلة ، في استقبالها لنا وللخروف يحسب لها وأعطتنا نبذه بسيطة عن أهل القرية أنهم يستطيعون أن يشاركون الغريب فرحته .. وبكل بساطة ، وجعلتني كل ما أتذكر هذا الموقف ووجهها المنير أقول " عليــــك السلام ورحمة الله وبركاتــة " .
وغمرنا الليل بلطف ، بـ سواده المعتـاد .. الذي أجبرني أن أنصت لفنان العرب عندما غنى وقال :
ياليل ياجامــع على الود قلبين ياليل ..
لك عـادةٍ تجمـع قلـــوب الولايف !